فصل: ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة

ذكر قتل الملك المنصور حسام الدين لاجين في هذه السنة وثب على لاجين المذكور جماعة من المماليك الصبيان الذين اصطفاهم لنفسه ليلـة الجمعة حادي عشر ربيع الآخر في أوائل الليل فقتلوه وهو يلعب بالشطرنج وأول من ضربه شخص منهم يقال له سيف الدين كرجي بالسيف وضربه الباقون بعده حتى قتلوا لاجيـن المذكور وطلعوا ليقتلوا مملوكه ونائبه منكوتمر فاستجار بسيف الدين طغجي الأشرفي وكان طغجي مقدم هؤلاء المماليك الذين قتلوا لاجين فأجاره طغجي وبعث بمنكوتمر المذكور إلى الجب فحبسه فيه ثم بعد استقراره في الجب توجه كرجي ومعه جماعة فأخرجوا منكوتمر وذبحوه على رأس الجب ولما أصبح الصباح عن ذلك جلس طغجي في موضع النيابة وأمر ونهى وهنالك جماعه من الأمراء أكبر منه مثل الحسام أستاذ الدار وسلار وبيبرس الجاشنكير وغيرهم فاتفقت آراؤهم على الوقيعة بطغجي وإعادة الملك إلى مولانا السلطـان الملك الناصر المقيم بالكرك واتفق بعد ذلك وصول بعض العسكر المجردين على حلب فوصل أمير سلاح وغيره وأشار الأمراء المذكورون على طغجي بالركوب وتلقى أمير سلاح فامتنع وعاودوه فأجاب وركب طغجي من قلعة الجبل وجعـل نائبـه بهـا كرجـي الـذي قتـل لاجيـن فعندما اجتمعت الأمراء بالأمير سلاح تحدثوا فيما فعله الصبيان من قتل السلطان وأنكـرت الأمراء وقوع مثل ذلك وقالوا‏:‏ إن طغجي هو الذي فعل ذلك فحطوا عليه بالسيوف وهرب منهم فأدركوه وقتلوه وقصدوا كرجي بقلعة الجبل فهرب واتبعوه فقتلوه أيضاً‏.‏

وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة وكانت مدة مملكة حسام الدين لاجين الملقب بالملـك المنصـور المذكـور سنتين وثلاثة أشهر‏.‏

مولانا السلطان الملك الناصر إلى سلطنته وفـي هذه السنة عاد مولانا السلطان الملك الناصر ناصر الدنيا والدين محمد ابن مولانا السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون إلى مملكته‏.‏

فانه لما جرى ما ذكرناه من قتل لاجين ثـم قتـل طغجـي اتفقـت الأمـراء علـى إعادة مولانا السلطان الملك الناصر إلى مملكته فتوجه سيف الدين ابن الملك وعلم الدين الجاولي إلى الكرك وأحضراه إلى الديار المصرية فصعد إلى قلعة الجبـل واستقـر على سرير ملكه في يوم السبت رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة وهي سلطنته الثانية‏.‏

فلما استقر السلطان الملك الناصر بالقلعة اتفق معه الأمراء على أن يكون سيف الدين سلار نائـب السلطنـة ويكون بيبرس الجاشنكير أستاذ الدار وأن يكون بكتمر الجوكندار أمير جانـدار‏.‏

فلمـا استقـر ذلـك فـوض نيابة السلطنة بالشام إلى جمال الدين أقوش الأفرم وأفرجوا عن شمس الدين قراسنقر من الاعتقال وكان له فيه نحو سنة وشهرين ثم بعثوا به إلى الصبيبة وكتب تقليد الملك المظفر محمود صاحب حماة ببلاده على عادته وبعث به إليه في جمادى ذكر تجريد العسكر الحموي إلى حلب وفـي هـذه السنـة فـي رمضـان الموافـق لحزيـران من شهور الروم جرد الملك المظفر عسكر حماة إلى حلب بسبب حركة التتر إلى جهة الشام فسرنا من حماة إلى المعرة وورد كتاب سيف الدين بلبان الطباخي بتراخي الأخبار فعدنا من المعرة إلى حماة فورد كتابه بطلبنا فأعادنـا الملـك المظفر من حماة في يوم وصولنا إليها وهو يوم الأربعاء سابع عشر رمضان وحزيران فسرنا ودخلنـا حلـب فـي الثانـي والعشريـن مـن رمضـان مـن هـذه السنـة ثم أرسل الملك المظفر وطلبني من نائب السلطنة بمفردي فأعطاني سيف الدين بلبان الطباخي دستوراً فسرت إلـى حمـاة إلـى خدمة ابن عمي الملك المظفر واستمر أخواي وغيرهمـا مـن الأمـراء والعسكـر مقيميـن بحلـب وأقمت أنا عند الملك المظفر بحماة‏.‏

ذكر وفاة الملك المظفر صاحب حماة وخروج حماة حينئذ عن البيت التقوي الأيوبي‏:‏ وفي هذه السنة أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة توفي صاحب حماة السلطان الملك المظفر تقي الدين محمود ابن السلطان الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه بن أيوب رحمه الله تعالى ومولده في ليلة الأحد خامس عشر المحرم سنة سبع وخمسين وستمائة فيكون عمره إحدى وأربعين سنة وعشرة أشهر وسبعة أيام وملك حماة من حين توفي والده في حادي عشر شوال سنة ثلاث وثمانين وستمائة فيكون مدة ملكه خمس عشرة سنة وشهراً ويوماً واحداً وكان مرضه حمى محرقة وكان سبب ذلك مع فراغ العمر أنه كان غاوياً برمي البندق واتفق له فيه صروعات حسنة فأراد أن يرمي النسر من طيور الواجب فقصد جبل علاروز وهو جبل مطل على قسطون وكان ذلك في شدة الحر وقتل حماراً وتركه على موضع بذلـك الجبـل وعمـل مـن أغصـان الشجر كوخاً وكان يجلس في الكوخ وأنا معه ومملوك له ومن يشاهده في رمي البندق وكـان يدخـل إلـى الكـوخ فـي السحـر ويظـل فيـه إلـى الظهـر ولا يتكلـم انتظـاراً لنزول النسر على جيفة الحمـار وكنا نشم نتن تلك الجيفة واتفق نزول النسر في تلك الحالة ولم يقدر له رمية ثم عدنا إلى حماة فابتدأ بنا المرض وبلغت الموت وفي مدة مرضي مرض الملك المظفر وعادني وهو قد ابتدأ به المرض ثم بعد بضع عشر يوماً توفي في التاريخ المذكور وأنا منقطع عنه بسبب مرضي وكذلك مرض المملوك الذي كان معنا بذلك المكان وكان عسكر حماة بحلب على ما قد ذكرنا وكان قد اتفق حضور الأمير صارم الدين أزبك المنصوري إلى حماة بسبب تشويش زوجته فلحق الملك المظفر قبل وفاته كان حاضراً وفاته وأما أخواي أسد الدين عمر وبدر الدين حسن ابنا الملك الأفضل فإنهما حضرا إلى حماة من حلب بعد وفاة الملك المظفر ولما اجتمع مذكورون اختلفوا فيمن يكون صاحب حماة ولم ينتظم في ذلك حال‏.‏

ذكر وصول قراسنقر إلى حماة الجوكندار إلى حماة نائباً بها‏:‏ ولما توفي الملك المظفر كان قراسنقر قد أخرج من السجن وأرسل إلى الصبيبة وهي مكان وخم فأرسل قراسنقر إلى الحكام بمصر يتضور من المقام بالصبيبة فاتفق عند ذلك وصول الخبر إلى مصر بموت صاحب حماة فأعطى قراسنقر نيابة السلطنة بحماة وسار من الصبيبة ووصل إلى حماة واستقر في النيابة بها في أوائل ذي الحجة من هذه السنة أعني سنة ثمان وتسعين وستمائة ونزل بدار ملك المظفر صاحب حماة وقمنا بوظائف خدمته وأخذ من تركة

صاحب حماة ومنا أشياء كثيرة حتى أجحف بنا ووصلت المناشير من مصر إلى أمراء حماة وجندها باستقرارهم على ما بأيديهم من الإقطاعات فاستمرينا على ما بأيدينا‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أرسل سيف الدين بلبان الطباخي عسكراً إلى ماردين فنهبوا ربض ماردين حتى نهبوا الجامع وعملوا الأفعال الشنيعة وذلك كان حجة لقازان في قصد البلاد على ما سنذكره‏.‏

وفيها توفي بدر الدين بيسري في محبسه من حين حبسه لاجين‏.‏

وفيها سار مولانا السلطان الملك الناصر من الديار المصرية بعساكر مصر إلى بلاد غزة وأقام بها حتى خرجت هذه السنة واتفق قراسنقر وأخواي وأرسلوا معي قماشاً وخيلاً من خيل الملـك المظفـر صاحـب حمـاة‏.‏

وقماشـه فسـرت أنـا وصـارم الدين أزبك المنصوري الحموي وقدمت ذلك لمولانا السلطان وهو نازل بالساحل قرب عسقلان فقبلـه وتصـدق علـي بخلعـة وحياصة ذهب ورسم بزيادة إقطاعي وإقطاع أخي بدر الدين حسن فزادونا نقداً من ديوان حماة‏.‏

وفـي هـذه السنـة توفـي شمـس الديـن كربته أحد المقدمين الذين دخلوا إلى بلاد سيس وفتحوا ما تقدم ذكره‏.‏

  ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة

الذي كان بين المصلين والتتر وهزيمة المسلمين واستيلاء التتر على الشام‏:‏ في هذه السنة سار قازان بن أرغون بجموع عظيمة من المغل والكرج والمزندة وغيرهم وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب ثم إلى حماة ثم سار ونزل على وادي مجمع المروج وسارت العساكر الإسلامية صحبة مولانا السلطان الملك الناصر حتى وصلوا بظاهر حمص ثم ساروا إلى جهة المجمع وكان سلار والجاشنكير هما المتغلبان على المملكة فداخل الأمراء الطمع ولم يكملوا عدة جندهم فنقص العسكر كثيراً مع سوء التدبير ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر ثم ساروا والتقوا عند العصر من نهار الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة الموافق للثالث والعشرين من كانون الأول من شهور الروم بالقرب من مجمع المروج في شرقي حمص على نحو نصف مرحلة من حمص فولت ميمنة المسلمين ثم الميسرة وثبت القلب واحتاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم وتأخر السلطان إلى جهة حمص حتى أدركه الليل فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصـر المحروسـة وتبعهـم التتـر واستولـوا على دمشق وساقوا في إثر الجفال إلى غزة والقدس وبلاد الكرك وكسبوا وغنموا من المسلمين الجفال شيئاً عظيمة‏.‏

وكان قبجق وبكتمر السلحدار والبكي مع قازان من حين هربوا من حمص على ما قدمنا ذكره في سنة سبع وتسعين وستمائة فلما استولى قازان على دمشق أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهل دمشق ولغيرهم من قازان ملك التتر واستولى قازان على مدينة دمشق وعصت عليه القلعة وأمر بحصارها فحوصرت وكان النائب بها الأمير سيف الدين أرحواش المنصوري فقام في حفظها أتم قيام وصبر على الحصار ولم يسلمها وأحرق الدور التـي حوالـي القلعـة والمـدارس فاحترقـت دار السعـادة التـي كانـت مقـر نـواب السلطنـة وكذلك احترق غيرها من الأماكن الجليلة وأما عسكر مصر فإنهم لما وصلوا إلى مصر رسم لهم بالنفقة فأنفق فيهم أموال جليلة وأصلحوا أحوالهم وجددوا عدتهم وخيولهم وأقام قازان بمرج دمشق المعروف بمرج الزنبقة ثم عاد إلى بلاده الشرقية وقرر في دمشق قبجق وجرد صحبته عدة من المغل‏.‏

فلما بلغ العساكر المصرية مسير قازان عن الشام خرجوا من مصر في العشر الأول من شهر رجب من هذه السنة وخرج السلطان إلى الصالحية ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصريـة ومسيـر سلـار وبيبـرس الجاشنكيـر بالعساكـر إلـى الشـام فسار المذكوران بالعساكر وكان قبجق وبكتمر السلحدار والألبكي قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم فلما خرجت العساكر من مصر هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر وساروا إلى جهة ديار مصر وبلغ ذلك التتر المجردين بدمشق فخافوا وساروا من وقتهم إلى البلاد الشرقية وخلا الشام منهم ووصل قبجق والألبكي وبكتمر السلحدار إلى الأبواب السلطانية فأحسن إليهـم سلطان ووصل سلـار وبيبـرس الجاشنكيـر إلـى دمشـق وقـررا أمـور الشـام ورتبـا فـي نيابـة السلطنة بدمشق الأمير جمال الدين أقوش الأفرم على عادته ورتبا قراسنقر في نيابة السلطنة بحلب بعد عزل سيف الدين بلبان الطباخي عنها وإعطائه إقطاعاً بديار صر ورتبا قطلوبك فـي نيابـة السلطنـة بالساحـل والحصـون عـوض سيـف الديـن كرد إنه استشهد في الوقعة ورتبا في نيابة السلطنة بحماة الأمير زين الدين كتبغـا المنصـوري الـذي كـان سلطانـاً ثـم خلـع وأعطـي صرخـد واستمر بصرخد حتى استولى قازان على الشام ثم سار إلى مصر والتتر بالشام ثم سـار مـع سلـار والجاشنكيـر إلى الشام فرتباه في نيابة السلطنة بحماة بعد قراسنقر فسار كتبغا المذكـور ووصـل إلـى حمـاة فـي الرابـع والعشريـن مـن شعبـان مـن هـذه السنة أعني سنة تسع وتسعين وستمائة واستقر بحماة وأقام بدار صاحب حماة الملك المظفر وسار قراسنقر إلى حلب ثم عاد سلار والجاشنكير بالعساكر إلى الديار المصرية‏.‏

في هذه السنة كان بين طقطغا بن منكوتمر وبين نغيه حروب كثيرة قتل فيها نغيه وقام مقامه ابنه جكا‏.‏

وفيهـا فـي مـدة استيـلاء التتر على الشام استولى على حماة شخص من الرجالة الذين كانوا فيها لحفظ القلعة يسمى عثمان السبيتاري وحكم في البلد والقلعة واستباح الحريم وأمـوال أهـل حماة وسفك دم جماعة منهم الفارس أرلندمشد حماة وبعض أهل الباب الغربي وكان يشارك عثمان المذكور في الحكم رفيقه إسماعيل فغدر عثمان برفيقه إسماعيل وقتله وانفرد عثمان بالحكم في حماة وقيل إنه تلقب بالملك الرحيم وبقي على تلك الحال إلى أن طلعت العساكر الإسلامية من مصر واستولوا على الشام وأرسلوا صارم الدين أزبك الحموي إلى حماة ليكون فيها إلى أن يحضر إليهـا زيـن الديـن كتبغـا المنصـوري النائـب فعصـي عثمـان المذكـور بالقلعـة المذكورة ثم فارقه أصحابه وتخلوا عنه وأمسـك عثمـان المذكـور واعتقـل وكـان المذكـور مـن جنداريـة قراسنقـر فلمـا وصل قراسنقر إلى حماة متوجها إلى حلب نزل على تل صفرون وتسلم عثمان المذكور وأطلقه فحضـر أهـل حمـاة وشكـوا مـا فعلـه فيهـم عثمـان المذكـور مـن نهـب أموالهم وهتك الحريم وسفك الدماء فتبرطل قراسنقر من عثمان المذكور ما أخذه من أموال أهل حماة واستصحب عثمان معه وأحسن إليه ومنع الناس حقهم ولم يمكن أحداً منه بعد أن حكم القاضي بسفك دم عثمان المذكـور وبقـي عثمـان عنـد قراسنقـر مكرمـاً إلـى أن هـرب قراسنقر إلى التتر على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

فاختفى عثمان المذكور ولم يظهر وكان أصله من بلاد الشوبك فلما تصدق علـي السلطـان بحمـاة تتبعـت عثمـان المذكـور وطلبتـه مـن نائـب السلطنـة بالشـام وهـو المقـر السيفي تنكيز فأمسـك عثمـان المذكـور من بلاد عجلون وأرسله إلي معتقلاً إلى حماة فضربت عنقه في سوق الخيل بحضرة العسكر في يوم الاثنين رابع عشر شعبان سنة ست عشرة وسبعمائة‏.‏

وفيهـا لمـا وصـل قـازان بجمـوع المغـل إلى الشام طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون منهم وعجز المسلمون عن حفظها فتركها الذين بها من العسكر والرجالة وأخلوها فاستولى الأرمن عليها وارتجعوا حموص وتل حمدون وكوير وسرفند كار والنقير وغيرها ولم يبق مع المسلميـن مـن جميع تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والبلاد التي كانت جنوبي نهر جيحان‏.‏

وفيها أو في السنة التي قبلها لما ملك دندين بلاد الأرمن أفرج عن أخيـه هيتـوم بـن ليفـون وجعله الملك وصار دندين بين يديه وكان هيتوم قد بقي أعور من حين سمله أخوه سنباط على ما قدمنا ذكره واستمر هيتوم ودندين على ذلك مدة يسيـرة ثـم غـدر هيتـوم بدنديـن وجازاه أقبح جزاء وأراد القبض عليه فهرب دندين إلى جهة قسطنطينية واستقر هيتوم في مملكـة سيـس ولمـا استقـر هيتـوم فـي مالـك سيـر كـان لأخيـه تـروس الـذي قتله أخوه سنباط على ما ذكرناه ولد صغير فأقام هيتوم المذكور الصغير ذلك ابن تروس في الملك وجعل هيتوم نفسه أتابكاً لذلك الصغير وبقي كذلك حتى قتلهما برلغي مقدم المغل الذين ببلاد الروم علـى مـا سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  ثم دخلت سنة سبعمائة

  ذكر مسير التتر إلى الشام ومسير السلطان والعساكر الإسلامية إلى العوجا ورجوعهم

فـي هذه السنة عادت التتر قصد الشام وعبروا الفرات في ربيع الآخر وجفلت المسلمون منهم وخلت بلاد حلب وسار قراسنقر بعسكر حلب إلى حماة وبرز زين الدين كتبغا عساكر حماة إلى ظاهر حماة في الثاني والعشرين من ربيع الآخـر مـن هـذه السنـة وسـادس كانـون الـأول وكذلك وصلت العساكر من دمشق واجتمعوا حماة وأقامت التتر ببلاد سرمين والمعرة وتيزين والعمق وغيرها ينهبون يقتلون وسار السلطان بالعساكر الإسلامية ووصل إلى العوجـا واتفـق في تلك المدة تدارك الأمطار إلى الغاية واشتدت الوحول حتى انقطعت الطرقات وتعذرت الأقوات وعجزت العساكر عن المقـام عـن تلـك الحـال فرحـل السلطـان والعساكـر وعـادوا إلـى الديار المصرية‏.‏

فوصل إليها في عاشر جمادى الأولى من هذه السنة وأما التتر فانهم أقاموا يتنقلون في بلاد حلب نحو ثلاثة أشهر ثم إن الله تعالى تدارك المسلمين بلطفه ورد التتر على أعقابهـم بقدرتـه فعـادوا إلـى بلادهـم وعبـروا الفـرات أواخـر جمـادى الآخـرة مـن هـذه السنـة الموافق لأوائل آذار من شهور الروم ورجع عسكر حلب مـع قراسنقـر إلـى حلـب وتراجعـت الجفال إلى أماكنهم‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة لما وردت الأخبار بعود التتر إلى الشام استخرج عن غالب الأغنياء بمصر والشام ثلث أموالهم لاستخدام المقاتلة‏.‏

وفيها لما خرجت العساكر من مصر توفي سيف الدين بلبان الطباخي الذي كان نائباً بحلب ودفن بأرض الرملة وورثه السلطان بالولاء‏.‏

وفيها عزل كراي المنصوري الذي كان نائباً بصفد وولى موضعه بتخاص‏.‏

وفيها عزل قطلوبك عن نيابة السلطنة بالحصون والسواحل ونقل إلى دمشق فصار من أكبر الأمراء بها وولى موضعه على الحصون والسواحل سيف الدين أسندمر الكرجي‏.‏

وفيهـا التزمـت الذمـة بلبس الغيار فلبس اليهود عمائم صفراء والنصارى عمائم زرقاء والسمرة عمائم حمراء‏.‏

وفيها وصلت رسل قازان ملك التتر وكان مضمون رسالتهم التهديد والوعيد فأعيد جوابه على مقتضى ذلك‏.‏

وفيها ولى البكئي الظاهري الذي قفز إلى التتر وعاد على ما ذكرناه نيابة السلطنة بحمص وكذلك أعطي قبجق الشوبك إقطاعاً وأرسل إليها فأقام بها‏.‏

وفيها قتل جكا بن نغيه أخاه تكا‏.‏

وفيها جرى بين جكا ونائبه طنغوز قتال فانتصر فيه طنغوز على جكا ثم انتصر جكا ثم استنجـد طنغـوز بطقطغـا فلم يكن لجكا به قبل فهرب إلى الأولاق وأمسك جكا واعتقله بقلعة طرفو ثم قتله وبعث برأسه إلى القرم وصارت مملكة نغيه لطقطغا‏.‏

  ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

وفـي هـذه السنـة توفـي أبـو العبـاس أحمـد الملقـب بالحاكم بأمر الله المنصوب في الخلافة وقد تقدم ذكـر ولايتـه ونسبـه فـي سنـة ستيـن وستمائـة والخلـاف في ذلك ولما توفي الحاكم المذكور قرر في الخلافة بعده ولده سليمان بن أحمد وكنيته أبو الربيع ولقب بالمستكفي بالله‏.‏

ذكر الإغارة على بلاد سيس وفي هذه السنة جرد من مصر بدر الدين بكتاش أمير سلاح وأيبك الخزندار معهما العساكر فساروا إلى حماة وورد الأمر إلى زين الدين كتبغا نائب السلطنة بحماة أن يسير بالعساكر إلى بلاد سيس فخرج كتبغا المذكور من حماة وخرجنا صحبته في يوم السبت الخامس والعشرين من شوال في هذه السنة الموافق للثالث والعشرين من حزيران من شهور الروم وسار العسكر صحبة زين الدين المذكور ودخلنا حلب يوم الخميس مستهـل ذي العقـدة ورحلنـا مـن حلـب ثالث ذي القعدة ودخلنا دربند بغراس سابع القعدة من الشهر المذكور وانتشرت العساكر في بلاد سيس فحرقت الزروع ونهبت ما وجدت ونزلنا على سيس وزحفنا عليها وأخذنا من سفح قلعتها شيئاً كثيـراً مـن جفـال الأرمـن وعدنـا فخرجنـا مـن الدربنـد إلـى مـرج أنطاكيـة ووصلنـا إلى حلب يوم الاثنين تاسع عشر ذي القعدة من هذه السنة وسرنا إلى حماة ودخلناها يوم الثلاثاء السابع والعشرين من الشهر المذكور الموافق للرابـع والعشريـن مـن تمـوز مـن شهـور الروم ودخل زين الدين كتبغا المذكور حماة وقد ابتدأ به المرض‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة مات قبجي بن ردنو بن دوشي خان بن جنكزخان صاحب غزنة وباميان وغيرهمـا من تلك النواحي وخلف من الأولاد بيان وكبلك وطقطمر وبغاتمر ومنغطاي وصاصـي‏.‏

فاختلفـوا بعـده واقتتلـوا ثـم انتصـر فيمـا بعـد بيـان بـن قنجـي واستقـر ملـك غزنة على ما سنذكره‏.‏

وفيهـا توفـي صاحـب مكـة الشريـف أبـو نمـي محمـد بـن أبي سعد بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعـن بـن عبـد الكريـم بـن عيسـى بـن حسيـن بـن سليمـان بـن علـي ابـن الحسيـن بـن علـي رضـي الله عنهم واختلفت أولاده وهم‏:‏ رميثة وحميضة وأبو الغيث وعطيفة‏.‏

وتغلب رميثـة وحميضـة على مكة شرفها الله تعالى ثم قبض بيبرس الجاشنكير على رميثة وحميضة في هذه السنة وكـان قـد حـج وتولـى أبـو الغيـث علـى مكة ثم بعد سنين أطلق حميضة ورميثة فغلبا على مكة وهـرب عنهـا أبو الغيث ثم اقتتل حميضة ورميثة فانتصر حميضة واستقر في مكة حرسها الله

  ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة

ذكر فتح جزيرة أرواد وفي محرم من هذه السنة فتحت جزيرة أرواد وهي جزيرة في بحر الروم قبالة أنطرطوس قريباً من الساحل اجتمع فيها جمع كثير من الفرنج وبنوا فيها سوراً وتحصنوا في هذه الجزيرة وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين المتردديـن فـي ذلـك الساحـل وكـان النائـب علـى الساحل إذ ذاك سيف الدين أسندمـر الكرجـي فسـأل إرسـال أسطـول إليهـا فعمـرت الشوانـي وسارت إليها من الديار المصرية في بحر الروم ووصلت إليها في المحرم من هذه السنة وجرى بينهم قتال شديـد ونصـر اللـه المسلميـن وملكـوا الجزيـرة المذكـورة وقتلـوا وأسـروا جميـع أهلهـا وخربوا أسوارها وعادوا إلى الديار المصرية بالأسرى والغنائم‏.‏

  ذكر دخول التتر إلى الشام وكسرتهم مرة بعد أخرى

وفي هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وساروا إلى الفرات وأقاموا عليها مدة في أزوارها وصارت منهم طائفة تقدر عشرة آلاف فارس وأغاروا على القريتين وتلك النواحي وكانت العساكر قد اجتمعت بحماة عند زين الدين كتبغا النائـب بحمـاة الملقـب بالملـك العـادل وكـان مريضـاً مـن حيـن عـاد مـن بلـاد سيـس كمـا تقـدم ذكـره واسترخـت أعضـاؤه فلمـا اجتمعت العساكر عنده وقع الاتفاق علـى إرسـال جماعـة مـن العسكـر إلـى التتـر الذيـن أغـاروا علـى القريتين فجردوا أسندمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل وجردوا صحبته جماعة من عسكر حلب وجماعة من عسكر حماة وجردوني أيضاً من جملتهم فسرنا من حماه سابع شعبان من هذه السنة واتقعنا مع التتر على موضع يقال له الكـرم قريبـاً مـن عـرض واقتتلنـا معهـم يـوم السبت عاشر شعبان من هذه السنة الموافق لسلخ آذار وصبر الفريقان ثم نصر الله المسلمين وولـى التتـر منهزميـن وترحل منهم جماعة كثيرة عن خيلهم وأحاط المسلمون بهم بعد فراغهم من الوقعة وبذلوا لهم الأمان فلم يقبلوا وقاتلوا بالنشاب وعملوا سروج الخيل ستائر لهم وناوشهم العسكر القتال من الضحى إلى انفراك الظهر ثم حملوا عليهم فقتلوهم عن آخرهم وكان هذا النصر عنوان النصر الثاني على ما نذكره ثم عدنا مؤيدين منصورين ووصلنا إلى حمـاة يـوم الثلاثاء ثالث عشر شعبان المذكور الموافق لثاني نيسان‏.‏

ذكر المصاف الثاني والنصرة العظيمة وفي هذه السنة سار التتر بجموعهم العظيمة صحبة قطلوشاه نائب قزان بعد كسرتهم على الكوم ووصلوا إلى حماة فاندفعت العساكر الذين كانوا بها بين أيديهم وسار زين الدين كتبغا فـي محفـة وأخرني بحماة لكشف التتر فوصل التتر إلى حماة في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبـان مـن هـذه السنـة فلمـا شاهـدت جموعهـم ونزولهم بظاهر حماة وكنت واقفاً على العليليات سرت من وقتي ولحقت زين الدين كتبغا بالقطيفة وأعلمته بالحال وسارت العساكر الإسلاميـة إلـى دمشـق ووصلـت أوائـل العساكر الإسلامية من ديار مصر صحبة بيبرس الجاشنكير واجتمعوا بمرج الزنبقية بظاهر دمشق ثم ساروا إلى مرج الصفر لما قاربهم التتر وبقـي العسكـر منتظريـن وصـول السلطان الأعظم الملك الناصر وسارت التتر وعبروا على دمشق طالبيـن العسكـر ووصلـوا إليهـم عنـد شقحـب بطـرف مرج الصفر واتفق أن ساعة وصول التتر إلى الجيش وصل مولانا السلطان بباقي العساكر الإسلامية والتقى فريقـان بعـد العصـر مـن نهـار السبت ثاني رمضان من هذه السنة أعني سنة اثنتين سبعمائة وكان ذلك في العشرين من نيسان واشتد القتال بينهم وتكردست التتر على الميمنة فاستشهد من المسلمين خلق كثير منهم الحسام أستاذ الدار وكان رأس الميمنـة وكـان بـرأس الميمنـة أيضـاً سيـف الديـن قبجـق فاندفـع هـو وباقـي الميمنـة بيـن أيدي التتر وأنزل الله نصره على القلب والميسرة فهزمت التتر وأكثر القتـل فيهـم فولـى بعض التتر مع توليه منهزمين لا يلوون وتأخر بعضهم مع جوبان وحال الليل بين الفريقين فنزل التتر على جبل هناك بطرف مرج الصفر وأشعلوا النيران وأحاطـت المسلمـون بهـم وأصبـح الصبـاح وشاهـد التتـر كثـرة المسلميـن فانحـدروا مـن الجبل يبتدرون الهرب وتبعهم المسلمون فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وكان فـي طريقهـم أرض متوحلـة فتوحل فيهـا عالـم كثيـر عـن التتـر فأخـذ بعضهـم أسـرى وقتـل بعضهـم وجـرد مـن العسكـر الإسلامي جمعاً كثيراً مع سلار وساقوا في إثر التتر المنهزمين إلى القريتين ووصل التتر إلى الفرات وهي في قوة زيادتها فلم يقدروا على العبور والذي عبر فيها وهلك فساروا على جانبها إلى جهة بغداد فانقطع أثرهم على شاطئ الفرات وهلك من الجوع وأخذ منهم العرب جماعـة كثيـرة وأخلـف اللـه تعالـى بهـذه الوقعة ما جرى على المسلمين في المصاف الذي كان ببلد حمص قرب مجمع المروج في سنة تسـع وتسعيـن وستمائـة ولمـا حصـل هـذا النصـر العظيـم واجتمعت العساكر بدمشق أعطاهم السلطان الدستور فسارت العساكر الحلبية والحموية والساحلية إلى بلادهم فدخلنا حماة مؤيدين منصورين في يوم السبت سادس عشر رمضان من هذه السنة الموافق لرابع أيار من شهور الروم‏.‏

وولاية قبجق حماة وفـي هـذه السنة أعني سنة اثنين وسبعمائة في ليلة الجمعة عاشر ذي الحجة توفي زين الدين كتبغا المنصوري ونائب السلطنة بحماة والمذكور كان من مماليك السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي فترقى حتى تسلطن وتلقب بالملك العادل وملك ديار مصر والشام في سنـة أربـع وتسعيـن وستمائة ثم خلعه نائبه لاجين وأعطاه صرخد على ما تقدم ذكره في سنة سـت وتسعيـن وستمائة واستمر مقيماً بصرخد من السنة المذكورة إلى أن اندفعت المسلمون من التتر على حمص في سنة تسع وتسعين وستمائة فوصل كتبغا المذكور من صرخد إلى مصر وخرج مع سلار والجاشنكير إلى الشام فقرره نائبا بحماة على ما تقدم ذكره في سنة تسع وتسعين وستمائة ثم أغار على بلادسيس فلما عاد إلى حماة مرض قبل دخوله إلى حماة وطال مرضه ثم حصل له استرخاء وبقي لا يستطيع أن يحرك يديه ولا رجليه وبقـي كذلـك مـدة وسـار مـن حمـاة إلـى قريب مصر جافلاً بين يدي التتر لما كان المصاف على مرج الصفر ثم عاد إلى حماة وأقام بها مدة يسيرة وتوفي في التاريخ المذكور من هذه السنة‏.‏

ولمـا توفـي أرسلـت أعرض على الآراء الشريفة السلطانية إقامتي في حماة على قاعدة أصحابها من أهلي فوجد قاصدي الأمر قد فات وقررت حماة لسيف الدين قبجـق المقيـم بالشوبـك وكتب تقليده بها في هذه السنة وحصل إلي من الصدقات السلطانية الوعود الجميلة الصادقة بحماة وتطييب الخاطر والاعتذار بأن كتابي وصل بعد خروج حماة لقجبق ووصل قجبق إلى حماة في السنة المقابلة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي فارس الدين البلي الظاهري نائب السلطنة بحمص‏.‏

وفيها توفي القاضي تقي الدين محمد بن دقيق العيد قاضي القضاة الشافعية بالديار المصرية وكان إماماً فاضلاً وولي موضعه القاضي بدر الدين محمد الحموي المعروف بابن جماعة‏.‏

وفيهـا كانـت زلزلة عظيمة هدمت بعض أسوار قلعة حماة وغيرها من الأماكن بالبلاد وهدمـت بالديـار المصريـة أماكـن كثيـرة وهلـك خلـق كثيـر تحـت الهدم وخربت من أسوار إسكندرية ستاً وأربعين بدنة‏.‏